الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأكد بـ {إنَّ} وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خَلَق السماوات والأرض ليقولن خلقهنّ العزيز العليم} في سورة الزّخرف (9).والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال: {لآيات للمؤمنين} وقال: {آيات لقوم يوقنون} دون أن يقال: لآيات لكم أو آيات لكم. أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك.والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له.وعطف جملة {وفي خلقكم} الخ على جملة {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه.والبث: التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة.وتقدم البث في قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابّة} في سورة البقرة (164).وعبر بالمضارع في {يبث} ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها.والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38].والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات.والرزق: القوت.وقد ذكر في آية سورة البقرة (164) {وما أنزل الله من السماء من ماء} وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة.والمراد بـ (المؤمنين). وب (قوم يوقنون). وب (قوم يعقلون) واحد. وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون. أي يعلمون دلالة الآيات.والمعنى: أن المؤمنين والذين يُوقنون. أي يعلمون ولا يكابرون. والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لابد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددًا. وازداد إيمانًا من كان مؤمنًا فصار موقنًا.فالمعنى: أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون. فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الاي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض.وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب. وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجوآية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل.وقد أو ما ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} [الجاثية: 6] استفهامًا إنكاريًا بمعنى النفي.واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهًا إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء. وكان مقصودًا منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية. فهو أيضًا صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم.فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها. والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها.وقرأ الجمهور قوله: {آيات لقوم يوقنون} وقوله: {آيات لقوم يعقلون} برفع {آيات} فيهما على أنهما مبتدان وخبراهما المجروران.وتقدّر (في) محذوفة في قوله: {واختلاف الليل والنهار} لدلالة أختها عليها التي في قوله: {وفي خلقكم}.والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد.وقرأها حمزة والكسائي وخلف {لآيات} في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة فـ: {آيات} الأول عطف على اسم {إنَّ} و{في خلقكم} عطف على خبر {إنّ} فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما {آيات لقوم يعقلون} فكذلك. إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين. أي ليسا مترادفين هما (إنّ) و(في) على اعتبار أن الواو عاطفة {آيات} وليست عاطفة جملة {في خلقكم} الآية. وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة. ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير (في) عند قوله: {واختلاف الليل والنهار} لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة {آيات} على اسم (إنّ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين.والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبوعن التأويل.وجعل ابن الحاجب في (أماليه) قراءة الجمهور برفع {آيات} في الموضعين أيضًا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عَاملٍ كما أن النصب يحتاج إلى عَاملٍ قال: وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيًّا وهما سواء.وقرأ يعقوب {آيات} الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح. والسحاب.{تِلْكَ آيات اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآياته يُؤْمِنُونَ (6)}.يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله: {لآيات للمؤمنين} [الجاثية: 3] وقوله: {آيات لقوم يوقنون} [الجاثية: 4] وقوله: {آيات لقوم يعقلون} [الجاثية: 5].وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين.وجملة {نتلوها عليك بالحق} في موضع الحال من {آيات الله} والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى: {وهذا بَعْلِي شيخًا} [هود: 72].والتلاوة: القراءة.ومعنى كون الآيات مَتلوة أنّ في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل (نتلو) مجاز عقلي لأن المتلوما يدل عليها.ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دَل عليه قوله: {الكتاب} [الجاثية: 2] أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن. فيكون استعمال فعل {نتلوها} في حقيقته.وإسناد التلاوةِ إلى الله مجاز عقلي أيضًا لأن الله موجد القرآن المتلوالدال على تلك الآيات.وقوله: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}. و{بعد} هنا بمعنى (دون).فالمعنى: فبأي حديث دون الله وآياته. وتقدم قوله تعالى: {ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده} في سورة الشورى (44). وفي الأعراف (185) {فبأي حديث بعده يؤمنون} والاستفهام في قوله: {فبأي حديث} مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى:
وإضافة {بعد} إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله: {فبأي حديث}. والتقدير: بعد حديث الله. أي بعد سماعه. كقول النابِغة: أي على مخافة وعل.واسم {بعد} مستعمل في حقيقته.والمراد بالحديث: الكلام. يعني القرآن كقوله: {الله نَزَّل أحسن الحديث} [الزمر: 23] وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف (185) {فبأيّ حديث بعده يؤمنون} وفي آخر المرسلات (50) {فبأيّ حديث بعده يؤمنون} وعطف و{اياته} على {حديث} لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السموات والأرض مما تقدم في قوله: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} [الجاثية: 3].وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب {يؤمنون} بالتحتية.وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات. اهـ.من الإعجاز العلمي في القرآن:للدكتور زغلول النجار:بحث بعنوان:من أسرار القرآن.
|